هو شاعر العرب المرحوم السيد أحمد بن حجة الاسلام السيد علي الشهير بالصافي النجفي. ترجمه جميع من تناول أعلام العراق والعرب في العلم والوطنية والأدب ولو عكفت على جمع ونشر ما كتب عنه من تراجم ودراسات وما ألف فيه وعنه من مؤلفات وما نوقش في الجامعات العربية عنه من رسائل وأطروحات جامعية لاحتجت الى عدد من المجلدات وقد آثرت أن أدون هذه الكلمة التي أرسلتها الى الجالية العراقية في لندن التي أقامت هناك حفلاً تذكارياً له قلت فيها ان الحديث عن شاعر العرب المرحوم السيد أحمد الصافي طاب ثراه حياته وشعره وعما قيل فيه وكتب عنه في حياته وبعد وفاته أمر يطول ولا تتسع هذه الكلمة وبهذه العجالة لعرضه واستعراضه وباختصار أقول اذا أردنا الدخول الى عالمه الرحب لوجدناه مثلاً فريداً لأولئك الحكماء والملهمين الكبار الذين نذروا مواهبهم لخدمة الأوطان والانسان كدعاة خير ورسل حرية ونساك شعر ولابد لنا والحالة هذه من التأني والتأمل في دخولنا الى عالمه خاصة وان سهولة دروبه وبساطتها قد تغري بالمرور السريع فنشأته وحياته رحمه الله وتأملاته الفلسفية وأشعاره عالم لا ضريب له, معانيه البسيطة, صوره الجميلة, مواضيعه الساحرة, إباؤه وزهده, سخريته وظرفه وما وهب من خصب الخيال وبراعة التصوير وصدق اللهجة حتى غدت ظاهرة ضخمة ثمينة بالدراسة والتحليل في كل جانب من جوانبها وسأقصر كلمتي على نشأته وبعض آرائه.
ولد رحمه الله سنة 1314 للهجرة من أبوين عربيين فأبوه حجة الاسلام السيد علي الصافي طاب ثراه وأمه كريمة الامام الشيخ محمد حسين الكاظمي قدس سره صاحب كتاب هداية الأنام. حدثني رحمه الله في إحدى زياراتي له أثناء اغترابه في لبنان فقال ولدت سنة 1314 هـ عن حمل ثمانية أشهر فكنت منذ ولادتي ضعيف البنية فحدبت علي والدتي وعند بلوغي السابعة من العمر أرسلت إلى الكتاب لتعلم مبادئ القراءة والخط وفي تلك الفترة كانت والدتي توقظني رحمها الله بعد صلاة الفجر وأنا في لذيذ النوم وتلزمني بمراجعة دروسي تحت اشرافها غير مكترثة بضعفي حيث كانت ووالدي يحرصان على اعدادي اعدادا يكفل أن أنهج نهج جدي لأبي وأمي في تحصيل علوم الدين وأن أبلغ ما بلغاه من مراتب اجتهادية فحثثت الخطى مواصلاً الليل بالنهار في الدراسة حتى وصلت مرحلة حضور بحث الخارج لدى أساتذتي العظام السيد أبو الحسن الموسوي والسيد حسين الحمامي والشيخ المظفر وفي هذه المرحلة فاجأني المرض فأشار علي الأطباء بالكف عن هذه الدراسة والاتجاه لمطالعة بعض الكتب الأخرى المسلية فاتجهت لمطالعة ما كان يصل الى النجف من مجلات من مصر ولبنان بالإضافة الى مطالعة الكتب الأخرى التي تحفل بها خزانتنا في شتى المواضيع وهنا بدأ بي ميل للأدب فابتدأت بقرض الشعر.
شغلت بخلق آي الشعر لما |
أمات السقم آمالي بصدري |
|
خلقت لكي يدير الكون فكري |
أيعجز عن إدارة بيت شعر |
وفي مجمل حياته كان حريصاً أن يفعل ما يقول وكان أميل للعمل منه الى القول:
ولم يكفني شعري يهز نواديا |
إذا لم يكن فعلي يهز النواديا |
|
محمد بالقرآن جاء فما اكتفى |
وإن أصبح القرآن للكون كافيا |
|
فحقق بالأفعال ما كان قائلا |
فأكرم به فعال قولٍ وداعيا |
وكان رحمه الله يرى أن الله جلّت قدرته قد هيأه للأرشاد وان الشعر وحي وانه نبي رسالته الشعر
كأن الهي قد براني مرشدا |
فمالي أنى سرت إلاي مرشد |
|
حماني من التقليد ما عشت انني |
اذا رمت أمرا لم أجد من أقلد |
وبهذا الفهم لرسالته في الحياة فانه لم يمتهن الشعر بل أكرمه اكرام نفسه:
عظيم بأن الشعر عندي رسالة |
فلم تبتذل يوماً وان عظم البذل |
وليست دواوين شعره سوى آيات طاهرة حيث يقول:
مراتبنا في الهدي دون نبينا |
وهادي نبي الخلق رب يوحد |
|
وهاك قريضي طاهرا وابن طاهر توضأ |
لديواني وجئ فهو مسجد |
|
ولست نبياً غير أني لأحمد |
يمت له شعري وروحي محتد |
ولم يكرس شعره لهجاء أو مدح أو رثاء.
وأمير رام أن أمدحه |
قلت أحتاج لمن يمدحني |
|
ان لي فوق معاليك علا |
كنت لو تفهمها تفهمني |
كما نأى بشعره عن الأغراض الشعرية المألوفة جامعاً بين روح الشعر الجاهلي وروح عصره فالتقى في شعره عمق التاريخ بمعطيات الحاضر ((فشعري كروحي جاهلي مثقف)).
وخمرت بالشعر القديم جديده |
ففاض على أوراقي البيض بالخمر |
|
قد ائتلفا شعر قديم وحادث |
لأنهما كانا أليفين في فكري |
ومما ينفرد به رحمه الله وهو من شيوخ دعاة التجديد
الى الشعر يأتي كل الف مجدد |
فبعد نبي الشعر أحمد أحمد |
انه وقف في وجه أي تجديد يؤدي الى الانحراف بالشعر العربي عن أصالته وعموديته وكان فخوراً بعلويته وعروبته حيث يقول:
محمد جدي كان داعية الهدى |
فاذا ضللت فلست بابن محمد |
أما بالنسبة لمواقفه القومية والوطنية فانها أشهر من أن تذكر فهو يرى ان قوميته ووطنيته قومية ووطنية معدن وارث واستمرارها استمرار وجوده.
سجنت وقبلي في العلى سجنوا أخي |
وأأمل في العلياء أن يسجنوا الابنا |
|
اذا لم نورث تاج مجد وسؤدد |
لأبنائنا طرا نورثهم سجنا |
ولقد أوقف حياته رحمه الله لنصرة الحق والصدق والتصدي لكل انحراف:
حملت لواء الحق في كل منهج |
فحربي وأهل البطل جلت عن الحصر |
|
أحارب أعدائي على ألف جبهة |
طوائف أو أحزاب أو كل مغتر |
كما تميزت حياته بعزة النفس والشموخ والإباء حتى أصبح مضربا للمثل في إبائه حيث يقول:
أشعلت قلبي لأعطي النور للبصر |
لم أحتمل منة للشمس والقمر |
وقوله:
عظيم بأني لا أحس بحاجة |
وإن كنت لا عل لدي ولا نهل |
وقوله:
وأخجل من أن |
أرجو الله خالقي |
وكان مؤمناً بالله ايمان الفاحص راسخ العقيدة رسوخ الجبال معتزا بقوميته فخورا بمجده العلوي حيث يقول:
اني لمن قوم بحسن فعالهم |
سادوا وما فيهم تكبر سيد | |
نمت فروعهم بطيب أصولهم |
وفعالهم شهدت بطيب المحتد |
أقول وفي صدد نشأته أيضاً أؤثر تدوين ما دونه هو رحمه الله شخصياً بشأن نشأته حيث أملى على الشاعر السوري عارف بغدادي بقصة حياته كما أسمتها مجلة أفكار الأردنية حيث نشرت ذلك بعنوان شاعر يقص قصة حياته يقول ولدت في النجف الأشرف سنة 1314هـ في أسرة علمية دينية من ناحية الأبوين فان أبي حجة الاسلام السيد علي الصافي ورث دراسة العلم الديني عن أجداده حتى الجد السابع الامام السيد عبد العزيز وهو من أسرة علوية كبيرة وقد شرع في دراسة العلوم الدينية كأبيه حتى أصبح من كبار مجتهدي عصره وكان له فضلا عن العلوم الدينية علم بالأنساب حيث يروي عنه بعض معاصريه قائلاً الامام النسابة السيد عبد العزيز. أما جدي لأمي فهو الامام الشيخ محمد حسين الكاظمي أكبر علماء عصره وله ترجمة مفصلة في كتاب الذريعة للعالم المؤرخ آغا بزرك الطهراني ويذكر له عدد من المؤلفات من بينها كتاب هداية الأنام وهو في علم الفقه ويقع في بضعة مجلدات والشيخ محمد حسين هذا ينتمي الى أسرة آل معتوق اللبنانية التي تعيش في بلدة الزرارية من قضاء صور وقد قدم الى النجف طلباً للعلم.
النشأة الأولى:
لقد تعلمت شيئاً يسيراً من قراءة القرآن على يد الشيخة أولاً ثم تعلمت الكتابة وأكملت قراءة القرآن في الكتاب وكنت على صغر سني أنوب عن المعلم في اعطاء درس الخط للتلاميذ وقد توفى أبي في مرض الطاعون الذي اجتاح العراق وكان سني يقل عن عشر سنين فكفل العائلة أخي الأكبر السيد محمد رضا الصافي ثم خرجت من الكتاب واقتفيت سيرة آبائي في دراسة علوم الدين على الطريقة السائدة في حينه فدرست الصرف والنحو والمنطق والمعاني والبيان وأصول الفقه الاسلامي وشيئا يسيراً من الفقه على عدد من الأساتذة وكان من أعظم أساتذتي العلامة المجتهد الأكبر السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني وكنت ضعيف البنية منذ الطفولة وقد تقدمت في تلك العلوم لدرجة كان الكثير يأملون معها بأن أكون خلفاً لجدي لأمي الشيخ محمد حسين الكاظمي ولما كنت ضعيف البنية كما أسلفت فقد كانت تلك العلوم ترهق أعصابي مما أدى الى اصابتي قبل الحرب العالمية بضعف عصبي شديد جعل الأطباء يشيرون على أهلي بأن أمتنع عن تلك الدروس وأكتفي بالمطالعة بقصد التسلية فقط فاتجهت منذ ذلك الحين الى قراءة الأدب القديم والحديث وأقبلت بنهم على مطالعة الصحف والمجلات والكتب المصرية حيث رأيت عالماً جديداً وآفاقاً واسعة ومن أهم المجلات التي تتلمذت عليها حين ذاك المقتطف والهلال ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن لا أزال أواصل كل ما يجد في الثقافة العصرية سواء أكانت علمية أم أدبية أو سياسية كما أواصل قراءة الصحف يومياً وبسبب مطالعتي لتلك الصحف والمجلات وتعرفي الى الحياة العصرية في حينه قد جعلني أشعر بواجبي نحو بلادي لاسيما وقد احتل الانكليز العراق في ذلك الوقت فما كادت تضع الحرب أوزارها إلا وشعرت ان الواجب الوطني يدفعني للعمل خاصة وان ندوة أخي المرحوم السيد محمد رضا الصافي التي تعقد يوميا لا تكاد تخلو من التحريض.
لقد كان أخي الأكبر السيد محمد رضا من أكابر المجاهدين في حركة الجهاد سنة 1330هـ وكان يتطلع للأنقاض والثورة على الاستعمار لحين التقائه بالسيد علوان الياسري في أبي صخير الذي كان متذمراً أيضاً الى آخر قصة بداية التفكير بالثورة وعندما قدمت لجنة الاستفتاء الى العراق حاول الانكليز بواسطة أنصارهم المماطلة والتلاعب والانحراف عن النهج الصحيح لاستقلال العراق وقد أدى موقف الانكليز الى التفكير الجدي بالثورة وبدأت الاجتماعات في بيتنا الذي كان مركز الثورة فيما يختص بالنجف وبدأ اتصالي مع المرحوم الشيخ محمد رضا الشبيبي والسيد سعد صالح وبزعماء العشائر وطلاب الاستقلال في سائر المدن العراقية تمهيدا للمطالبة باستقلال العراق تحت إمارة أحد أبناء الشريف حسين وكنا نكاتب الثوار بواسطة الحبر السري الى أن تهيأت أسباب الثورة عقد اجتماع في الجامع الهندي بالنجف والقيت فيه خطب حماسية واشعار مثيرة وعلى الاثر أصدر الحاكم الانكليزي في بغداد أمرا الى حاكم النجف بإلقاء القبض على الفئة المحرضة وكان بين الأسماء اسمي واسم صديقي سعد صالح ولم أكن أعلم بذلك حين ذاك ولكني علمت هذا منذ عشرين عاما تقريباً حينما قرأت ذلك في عدد من مجلة الحرب العظمى التي كان يصدرها عمر أبو النصر وكان ذلك العدد خاصا بثورة العراق ويقول بعد أن يذكر طلب الحاكم الانكليزي في بغداد ان حاكم النجف لم ير من المصلحة القاء القبض عليهم ثم أخذ شعور الثورة يسري بين الناس في العراق سريان النار في الهشيم حتى اندلعت لأول مرة في بلدة الرميثة ثم امتدت الى معظم أنحاء العراق وهنا أصبحت الاجتماعات في بيتنا علنية من قبل الزعماء والضباط الذين كانوا يساهمون في توجيه الثوار وكان ذلك في أوائل سنة 1920 وبعد أن استمرت تلك الثورة ستة أشهر تقريباً ساق الانكليز قوة كبرى اضطر الثوار على اثرها الى الانسحاب من مواقعهم متجهين الى جهة الكوفة وعندما صرنا نسمع المدافع تطلق بين ذي الكفل والكوفة عقدنا أنا ورفيقي سعد صالح ورفيقان آخران اجتماعا قررنا فيه مبارحة العراق حتى نرى كيف تتطور الأمور فقطعنا الجزيرة بين دجلة والفرات وقربنا من حدود بلدة الحي الواقعة على ضفاف دجلة فانفصل عني رفيقي سعد وذهب مع رفيقيه الى العمارة ومنها الى الكويت ثم عاد فيما بعد الى العراق أما أنا فقد واصلت سفري بعد أن غيرت هيئة لباسي وانتقلت الى الكوت ومن هناك دخلت الحدود الايرانية وبعد شهر تقريبا وصلت طهران فقرأت في الصحف الفارسية خبر وصول الانكليز الى بلدة النجف واعتقالهم خمسة من زعمائها كان أحدهم أخي الأكبر المرحوم السيد محمد رضا وقد وضعوه في سجن خاص في الكوفة ثم نقلوه الى الحلة وحكم عليه بالإعدام جراء مشاركته في الثورة وجعل بيته مركزاً لها ثم استبدل حكم الاعدام بالسجن المؤبد وبعد أن قضى في السجن خمسة أشهر أفرج الانكليز عنه ووضع تحت الاقامة الاجبارية في الحلة بعدها قرروا اعطاء العراق استقلاله بإمارة الشريف فيصل وعندما خرج من السجن ارسل إلي الى طهران أبياتا كان قد نظمها في سجنه طالباً مني تخميسها فخمستها وأعدتها اليه فنشر الأصل والتخميس في مجلة (لغة العرب) للأستاذ العلامة الكرملي وهذه الأبيات مثبتة في ديواني الأول (الامواج) وفي ديواني السابع (حصاد السجن) أما أنا فعندما حللت في طهران لم أشأ أن أضيع الوقت سدى فأقبلت على تعلم الفارسية من الأفواه ومن مجالسة أدباء الفرس وبعد ستة أشهر طلبت وزارة المعارف هناك عددا من المعلمين على أن يؤدوا الفحص أولا فتقدمت بطلب التعيين وأجروا لي فحصاً أعطوني بعده أعلى درجة في النحو وعينوني مدرساً اختصاصيا للآداب العربية وبعد سنتين قدمت استقالتي وأخذت أتمرن على الكتابة بالفارسية وبعد ستة أشهر شرعت أكتب في أمهات الصحف والمجلات هناك وفي طليعة المجلات كانت مجلة (أرمغان) لسان حال النادي الأدبي في طهران الذي انتخبت بعد ذلك عضواً رسمياً فيه ثم عينت عضوا في لجنة الترجمة والتأليف وقد ترجمت من العربية الى الفارسية كتاب (علم النفس) لعلي الجارم ومصطفى أمين ثم ترجمت رباعيات عمر الخيام نظما من الفارسية الى العربية تلك الترجمة التي طبعت الى الآن خمس طبعات وكانت احدى هذه الطبعات تحتوي مع الأصل الفارسي على الترجمة الانكليزية والفرنسية والألمانية.
بعد أن مر على مكوثي في إيران ثمان سنوات جاءني الطلب من حكومة العراق ومن أصدقائي من زعماء الثورة يدعونني للعودة للمساهمة في الخدمة فعدت بدافعي خدمة الوطن والحنين وعند وصولي طلب الي السيد داود الحيدري وزير العدل حينئذ التعيين بوظيفة قاضي شرعي في بلدة الناصرية ولكن مرضي حال دون أداء ذلك الواجب الشرعي واشتد بي المرض حتى كاد أهلي أن ييأسوا من شفائي الى أن قيض الله لي طبيبا سوريا حاذقا اشرف على علاجي وبعد شهرين من تمتثلي للشفاء أشار علي بالسفر الى سوريا ولبنان للاستجمام فسافرت الى دمشق سنة 1930 وبقيت منذ ذلك التاريخ أتنقل بين سوريا ولبنان وقد دخلت في أثنائها بضعة عشر مستشفى دون أن أحصل على شفاء كامل يشجعني على العودة للعراق على أن ذلك لا يهم عندي طالما أنا القائل:
اني امرؤ عربي والعلي نسبي |
في أي أرض أرى عربا أرى وطنا |
ولما حدثت ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق كنت حين ذاك في لبنان بادرت الى المساهمة في تأييد الثورة برغم ما كنت أعانيه من أمراض فكنت على رأس مظاهرة الجامعة الأمريكية في بيروت ثاني يوم قيام الثورة كما كنت أتعاون مع بعض العناصر القومية في لبنان بإرسال متطوعين الى العراق وعندما انتهت الثورة وأعقبتها حرب ((فيشي)) وقرب الانكليز من لبنان فر أصحابي الى برلين والى روما أما أنا فلم أكن أستطيع الفرار كما عملت في المرة الاولى ولذا اعتقلني الانكليز لدى دخولهم الى لبنان ووضعوني وديعة في سجن الفرنسيين تمهيداً لنقلي الى سجن (الميه وميه) وبعد أن مر علي في السجن شهر ونصف نقلت بعدها بعد اشتداد مرضي الى مستشفى (سان جورج) وفي هذه الأثناء توسطت حكومة العراق عند الانكليز للإفراج عني فخرجت من السجن وكان رفيقي ديواني السابع (حصاد السجن) وقد توجته بهذين البيتين مشيرا فيهما الى سجن أخي الأكبر وهما:
سجنت وقبلي في العلى سجنوا أخي |
وأأمل في العلياء أن يسجنوا الابنا |
|
اذا لم نورث تاج مجد وسؤدد |
لأبنائنا طرا نورثهم سجنا |
هذا موجز من تاريخ حياتي أما من ناحية الشعر فقد قدمت منه حتى الآن للمكتبة العربية عشرة دواوين مطبوعة بالإضافة الى خمسة دواوين معدة للطبع وكانت بيئتي في النجف بالإضافة الى طابعها الديني بيئة أدبية أيضاً ولاسيما فيما يختص بالشعر الذي كنت أسمعه في كل مجلس ونادي أضف الى ذلك أن أسرتي كلها تتعاطى نظم الشعر وقد أخذ أهلي ينمون في الروح الشعرية منذ الطفولة بما يفرضون علي من حفظ الشعر أما شعري فأرى انه فضلا عن تعبيره عن شخصيتي الخاصة يستمد من ثقافتين الثقافة القديمة والثقافة الحديثة وبالإضافة لتلكم المدرستين فإن هناك مدرسة أعظم هي مدرسة التشرد.
1- ديوان الأمواجة2- الأغوار 3- الشلال 4- التيار 5- الحان اللهيب 6- اللفحات 7- شرر 8- ومضات 9- أشعة ملونة 10- هواجس.
وهذه جميعها مطبوعة عدة طبعات بالإضافة لترجمته لرباعيات عمر الخيام أما دواوينه المخطوطة فهي:
1- شباب السبعين 2- تمرد المشيب 3- هكذا جاء 4- بلا اسم 5- المطعم.
وقد طبعت من قبل وزارة الثقافة والفنون العراقية تحت اسم المجموعة الكاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي غير المنشورة كما صدر له كتاب (هزل وجد) وهو يوضح خصائص كتابته كناثر ويبين معالم أسلوبه ويرسم مزايا بيانه ويري مسالكه بالتعبير عن الجد وطرائفه في الهزل واذ اشتهر سيدنا المترجم كعالم واسع الاحاطة في العلوم الدينية والفقهية وكشاعر متفرد في شعره وسلوكه ومجاهد وطني فهو أيضاً عالم محقق اذا اتاحت له اقامته في طهران زيارة خزائن الكتب الخطية في المكتبات والبيوت واستطاع أن يطلع على نفائس وطرائف من التراث العربي وهو رحمه الله الذي أوصل الى البلاد العربية كتاب ((الورقة)) في تراجم الشعراء لأبي عبد الله محمد بن داود الجراح المتوفى سنة 296هـ فقد اطلع على النسخة الوحيدة الفريدة القديمة في خزانة صدر الأفاضل وكتبها له الناسخ المتصوف محمد علي بن عبد الخالق النائيني في سنة 1345هـ وقد قدم فقيدنا هذه النسخة الى المرحوم عبد الوهاب عزام الذي حققها مع الأستاذ عبد الفتاح أحمد فراج ونشرتها دار المعارف بمصر سنة 1952 كما طلب الى الناسخ المذكور أن يستنسخ له كتاب ((التنبيه على حدوث التصحيف)) لمؤلفه حمزة بن الحسن الأصفهاني فأتم نسخه سنة 1345هـ وقد قدم هذه النسخة الى المكتبة الظاهرية في دمشق وسجلت بالعدد (4706/عام) وهي النسخة التي اعتمدها المرحوم محمد أسعد طلس الذي حقق الكتاب المذكور من بعد ونشره مجمع اللغة العربية بدمشق.
سوف أقتصر في الحديث عن شاعرية شاعرنا الراحل على تثبيت مقتطفات من أقوال البعض من شعراء العربية وأدبائها في شاعرية الصافي النجفي كما دونت على غلاف ديوانه الأول الأمواج فقط حيث أغنتني عن تثبيت ذلك الكتب والدراسات والبحوث الجامعية التي ناقشتها الجامعات العربية لنيل درجات الماجستير والدكتوراه والتي ركزت على جوانب متعددة من أدبه وشعره وحياته السياسية أثناء حياته وبعد وفاته ومما قالوا فيه:
* عالم غريب يكشفه الصافي. الصافي هو الشاعر الوحيد من بين شعرائنا المعاصرين الذي يعبرون عن حضارة خاصة شأنه في ذلك شأن طاغور وغوتيه والمتنبي. ((عبد اللطيف شرارة/ مجلة المكشوف)).
* الصافي ستدرس الأجيال العربية في دواوينه.((فواء الشايب/ مجلة الصباح))
* الصافي أشعر شعراء العربية. ((عباس محمود العقاد/ مجلة الاذاعة المصرية))
* لقد من الله على الشعر العربي بالصافي فأحاله روحا بعد أن كان قوافي وأوزانا. ((روكس العزيزي/ مجلة الاعتدال النجفية)).
* الصافي متسع الأفق لم يترك موضوعا إلا وطرقه ولا عاطفة إلا وصورها انه ظاهرة ضخمة في الشعر. ((بدر شاكر السياب/ مجلة أهل النفط)).
* السيد أحمد الصافي شاعر كبير خليق بالإكبار فهو كوكب وقاد قد طلع في سماء الأدب بازغا فملأ العيون نورا والقلوب سرورا واني لمفتخر بأني أول من اكتشف هذا النجم الجديد ودل عليه هواة الأدب العصري. ((جميل صدقي الزهاوي)).
* شعر الصافي النجفي دنيا من الفن قائمة بنفسها. ((الشاعر القروي رشيد سليم الخوري)).
* أحمد الصافي النجفي هذا الاسم سيعيش طويلا ويخيل الي اني أرى خيال الأسطورة على أحرفه. ((الياس أبو شبكه)).
* الأمة العربية تنبغ عندما تعرف الصافي. لقد تقمصت في الصافي أرواح شعراء كثيرين ففيه روح المتنبي وروح المعري وروح أبي نؤاس وروح أبي العتاهية وروح أبي الشمقمق وغيرهم. ((رئيف خوري/ مجلة المكشوف)).
وكتب عنه الأستاذ حميد المطبعي صاحب موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين بعنوان من هو أحمد الصافي في جريدة الزوراء يقول: أحمد الصافي النجفي 1897-1977 من كبار شعراء العرب في العصر الحديث وكاد ينفرد بينهم في القصيدة (التأملية) التي تمتد الى أعماق النفس وتستخرج منها الوحشة والغربة والاغتراب والحلم والشوق الدفين وبلغة سلسة واضحة لكنها تستقطب وعياً فلسفياً متسائلاً عن طبيعة الأشياء في حركة الكون أو في حركة النفس الانسانية وقد تجلت في (شخصيته الشعرية) عفة النفس أو ضميره المتحرك الى كل الاتجاهات كما تجلت فيه رحابة في الاجتهاد الفلسفي وصرامة في الالتزام بأهداف الشعر النبيلة ووطنية متوازنة خالصة حافظ بها على جذره العربي الأصيل.. وتقترب اليه أكثر فأكثر ولاسيما في ديوانه (الأغوار) ستكتشف ان الصافي جعل الحكمة مصدر إلهامه الشعري والتفلسف وسيلة من وسائله التعبيرية في القصيدة ولو أراد لجعل أية قصيدة من قصائده تشريحا فلسفيا للعقل أو الاعتقاد العربي أو السيادة العربية وتحركت في شعره طروحات الفلسفة الجوهرية وهي:
1- وحدة الوجود اذ جعل النفس خالقة الكائنات ((ففيها من النفس كل الاثر)).
2- الحق اذ وجد فيه جمالا وفي الجمال فن وهذا الترابط كان الغربيون يضعونه تحت عنوان (الحق فن البصائر) وزاده عمقاً حين كتب الصافي قصيدة (الحق فن والفن حق).
3- مبدأ التناقض. وبوجهة نظره الجديدة الثنائية العربية وعبر عنها الصافي في قصيدته (روح الإله) في ديوان الأغوار ويقول في آخر أبياتها:
ارى كل شيء بغيض الي |
ارى كل شيء حبيب الي |
وقد وجد ان الصراع في الحياة قام على متنافرتين اثنتين وفي قصيدته يقابل الشيء ونقيضه الزهرة وامامها الشوك والحياة مقابل الموت والحب مقابله البغض أي ان في هواه يتجلى بغضه الى آخر المتناقضات التي يكتشف فيها طبيعة النفس. قال:
أحب التغلغل في كل أمر |
كأني كونت من كل شيء |
4- الروح: وبعيدا عن آراء الفلاسفة دخل الصافي الروح ووصفها بشفافية الشعر واذا به في قصيدة (أثواب الروح) يسلسل حقيقة الروح بوعي جديد لاشك هو وعي روحه الخاصة التي هي في كل يوم يزيح عنها ثوبا باليا من عقائد الأحقاب وترجمة قصائده التي ظهرت فيها موضوعة الفلسفة الى الانكليزية والى لغات شرق أوسطية مما دفع الناشرين في بيروت الى طبع ديوانه (الاغوار) عدة مرات وبعضها بغير تاريخ لابتلاع حقوق نشره واذا سئل الصافي عن حقوقه في دواوينه المسروقة رفع يده الى السماء زهدا ومات زاهدا. وكان حتى في غزلياته يمج عواطفه بمشاعره بفلسفته الخاصة بالحب.
أو ما تفارقنا على أن نلتقي |
فقد انقضى زمن وطال مغيب |
وبقي مجردا أي بلا زواج وطوالع فلسفته في ذلك.
ان أسمى اللذات ما تنتهي بي |
لغناء ما فوقه من مزيد |
ولد في النجف وهو بحسب شجرته العلوية السيد احمد بن السيد علي بن السيد (الصافي) الذي اشتهرت به الاسرة في عصرها الأخير وهو ابن السيد جاسم بن السيد محمد بن السيد أحمد بن السيد (عبد العزيز) الذي اتسمت به اسرته في عصرها الوسيط وكان مرجعية فقهية نسبية يتصل جذره بالإمام موسى الكاظم فهم أسرة علوية المنبت ظهر أوائلها في الحجاز ومنه نزح أحد أجدادهم الى البصرة وسكن ناحية (الجبيلة) ولقب أولاده بالجبيلي وتحدر واحد منهم وهو السيد أحمد الجبيلي الى النجف لمجاورة الدرس الفقهي في حدود الثلثية الاولى من القرن الحادي عشر الهجري ولما اشتهر جدهم السيد (صافي) بحركته العلمية سميت أسرته بعد وفاته (بالصافي) مثلما تسمى الأسر العريقة على أسماء أجدادها النابغين ولأحمد الصافي شقيقان محمد رضا ومحمد أمين وأخ ثالث السيد هادي وكلاهم بيت علم وشكلوا مع السيد أحمد بيت الصافي الحديث الذي توزعت ذراريه في حقول العلم والبلاغة والشعر وفي ميادين الجهاد والوطنية. وفي الثانية عشرة من ربيعه الأول لبس العمة العربية وبدا يدرس المقدمات وهي المرحلة العلمية الأولى في جامعة النجف الكبرى واجتازها الى مرحلة السطوح فقضى تسع سنوات يقرأ ويستقرئ علما وأدبا وفقها وبين هذه وتلك يقرأ مطولات المتنبي وابي تمام والبحتري فاكتشفوا فيه منجم الشعر حتى كتبه وهو فتى لكنه المتمرد الثائر والناس تقرأ قصائده في الدواوين أو في مجالس العلم واستقام على الشهرة وهو في بداية عشرينياته. المتنور أو المصلح ومع عشرة من رفاقه ومنهم شقيقه محمد رضا ومحمد باقر الحلي وسعد صالح وحسين كمال الدين كانوا منحازين الى ديموقراطية العصر الجديد فحملوا مشعل التحرير في النجف وألهبوا أرض الفرات الأوسط شعرا وصرخات وحين أمعن الانكليز في نشر الرذيلة قام الصافي ورفاقه العشرة يترسمون منهج المقاومة وكان بيت الصافي المقر الخلفي لمقاومة الغزاة وفي ليل وضع الانكليز شقيقه محمد رضا في سجن الحلة ونجا السيد احمد عبر ظلام بساتين الارياف الى المحمرة وتزيا بدل العمة بزي الاعراب ثم اخترق الجبال الى طهران وهناك اتقن الفارسية ودرسها في معاهدها ثم ترجم رباعيات (الخيام) الشاعر وترجم روائع الادب الشرقي وأذيعت شهرته في نوادي الشرق كافة. ثم رجع الى النجف سنة 1928 وبين سوريا ولبنان رسخت شهرته في صحف العرب وصارت شهرته بعد أحمد شوقي وتنقل أشعاره عبر الاذاعات ويزوره نقاد العرب ويعرف به في المحافل والكتب المترجمة وهو هو ذلك المتواضع في طعامه ولباسه وفي تصرفات شخصيته وفي عام 1941 سجنه الفرنسيون بتوصية من الانكليز لأن الصافي دعا الى نصرة ثورة مايس في العراق وأوحى له السجن أن يكتب ديوانا باسم (حصاد السجن) وفيه لمساته الأساسية في النفس والروح والشاعرية كما في دواوينه الأخرى الأمواج, التيار, الشلال, الى آخر دواوينه التي بلغت خمسة عشر عدا شعره المحذوف رقابيا أو المنشور في موسوعات شعرية وحن الى أطيافه الاولى وعاد الى بلده عام 1975 لكنه بين مستشفى ومستشفى اخذ يؤرخ ايام خريفه الاخير وسألته وهو على سريره (من أي الاوطان انت) وعلى ضوء دموعه انشد مترنحا:
انا عربي وحسبي بذا |
جوابا يعظمه سائلي |
الى آخر ابيات انشاده الذي اكد فيه اصالة دعوته الى الوحدة العربية وهو من اوائل الداعين لها هو وآباؤه الصيد من هاشم هو وبيت
الصافي الذي تولد قدما بأرض الحجاز او هو كما قال :
سيبقى يطوف الى ان يقيم |
على ذروة الوطن الكامل |
وكان كبيرا بآماله وسامي مطامحه وكبيرا بهزئه بالنوائب ووجهه المبتسم دائما والشعر فيه رسالة لم تبتذل بيديه في يوم عظم البذل.
ان المرحوم السيد أحمد في أخريات سني حياته قد وهت قواه وخبا بصره وزادت الرصاصات الآثمة التي تعرض لها أثناء الحرب الأهلية في لبنان من أسقامه وعندما أصيب في ساقه ورئته بإطلاقتين نقل على اثرهما الى المستشفى في بيروت وما أن علمت الحكومة العراقية بذلك حتى أمرت السفارة العراقية في بيروت بالإشراف على علاجه ونقله الى بغداد بعد أن تسمح صحته بذلك وفي التاسع عشر من شباط سنة 1976 عاد الى بغداد وقد أدخل مدينة الطب لاستكمال علاجه اكراماً له واهتماماً بمنزلته الوطنية والأدبية وأثناء عودته ووصوله الى بغداد قال:
يا عودة للدار ما أقساهــا أسمـــع بغداد ولا أراها
واستقبله عدد من الشعراء وهذه إحدى الخرائد التي استقبله بها الدكتور الشيخ أحمد الوائلي اثر عودته:
يا عود جرحك لحن بالعبير ندي |
فخل جرحك يشدو في ذرى بلدي |
|||||
فرب جرح على أنغامه سكرت |
دنيا وما زال صداحاً الى الأبد |
|||||
يا ابن الفرات لقد تاق الفرات الى |
لحن عن الشط والناعور مبتعد |
|||||
غنى للبنان فاخضرت شواهقه |
ولفح السفح في زاه من البرد |
|||||
وتينة الجبل استبكته وحدتها |
ورب منفرد يبكي لمنفرد |
|||||
وعلمته بأرض الشام صومعته |
يأوي إليها معاني الصبر والجلد |
|||||
ونخلة الشام كم آذته غربتها |
وإنها ما نمت يوما ولم تزد |
|||||
قلب يوزع للدنيا خوالجه |
شدوا وشجوا ولم يبخل على أحد |
|||||
والشعر من طبعه النعمى وسابغة |
من العطاء بلا من ولا نكد |
|||||
يا أيها العائد المجروح نز له |
بالقلب جرح وجرح نز بالجسد |
|||||
فالقلب أدماه سحر الحور سارحة |
بساحة البرج حيث النفث بالعقد |
|||||
والجسم أدماه رشاش لباغية |
رش اللهيب على برد ومبترد |
|||||
إذ وجه لبنان للمجدور شوهه |
رشق القذائف من قرب ومن بعد |
|||||
يا ابن الفرات وحمدا للرصاص فقد |
أعاد مغتربا لولاه لم يعد |
|||||
عد للحصاد وللناعور يغزل فيه |
الشطين نجوى حبيب لاهب الكلد |
|
فالنخل أعذاقه الصفراء يسكرها |
سجع الفواخت في جوق من الغرد |
|
وللمواويل إذ تنساب من قصب |
الراعي فتطرب حتى سارح النقد |
|
للسامرين ليالي البدر يجمعهم |
ناي يقص حكايات بلا عدد |
|
وللدوالي بأرض السدير بها |
طيف من ابن عدي أو شذا دعد |
|
ودير هند وقد مرت كواعبه |
تمشي الى الكرح ([1]) في دل وفي أود |
|
حيث الشعانين ([2]) تستهدي مواكبه |
طريقها بنهود للسما نهد |
|
وحيث يمزج ثرواني([3]) خمرته |
بالخمر يبتغي ماءا ولم يجد |
لكوفة الجند أطياف الكميت بها |
وندوة ثقة في المتن والسند |
|
لساحر المتنبي العبقري لدى |
أرباض كندة بالنقاد محتشد |
|
لرملة النجف السمراء ضاحكة |
أبعادها بالأصيل الحلو والرأد |
|
في حيث تخصب أفكار معمقة |
لو جاءت العصر في أثوابه الجدد |
|
وحيث يرقد عملاق مشاعله |
مازال بالكون منها ألف متقد |
|
عد فالمعار إلى أهليه مرتجع |
وقل لجرحك غرد في ذرى بلدي |
إلا أن الدلائل كلها كانت تشير الى ان نهاية الشاعر قد ابتدأت رغم شفائه من الإصابات التي تعرض لها وعند تحسن صحته نقل الى بيت ابن أخيه الدكتور علي الصافي في المنصور ببغداد وفيه زاره السيد نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في حينه السيد الرئيس الحالي للاطمئنان على صحته وليستمع الى بعض ذكرياته وبعض أشعاره وقد كان لزيارة السيد الرئيس له وتفقده لحالته الصحية الأثر الكبير في نفسه حيث قال ((هذا يعني اننا نتحول. اننا نتعامل بنبل مع المستقبل. اني لم أمدح صدام حسين ببيت واحد من الشعر وهذه اللفتة أقنعتني بنهاية عصر شعراء البلاط ومن هنا يبدأ الشعر)). وقد قال في أخريات أيام حياته للدكتور جلال خياط الذي كلف من قبل وزارة الاعلام بالأشراف على طبع دواوينه الخطية ((أحب العراق وأعيش فيه أينما حللت وعزائي الوحيد اليوم انني سأموت فيه)) وصدق توقعه اذ بعد أيام تعرض الى الاصابة بانفجار في الدماغ نقل على اثره الى المستشفى في مدينة الطب ببغداد وتوفى اثره في مساء يوم 27/6/1977 فنعته وكالة الأنباء العراقية ونشرت نبذة مختصرة عن حياته وكذلك دور الاذاعات العربية والأقسام العربية في الاذاعات الأجنبية ورثته الصحافة العراقية والعربية والأجنبية وفي صباح يوم 28 حزيران شيعت جماهير العاصمة بغداد جثمان الشاعر الراحل حيث سار في مقدمة التشييع عدد من أعضاء القيادة ووكلاء وزارة الاعلام وعدد كبير من المسؤولين وقد وضع على النعش اكليل وزارة الاعلام وبعد إكمال مراسيم التشييع نقل الى النجف وفي النجف جرى للفقيد تشييع مهيب من ساحة الامام علي (ع) الى الصحن الحيدري الشريف وقد شارك في تشييعه أصحاب السماحة العلماء الأعلام ورجال الحوزة العلمية ومحافظ النجف وكبار المسؤولين في محافظة النجف ومحافظات الفرات الأوسط وكافة رؤساء العشائر فيها بالإضافة إلى جماهير النجف الأشرف وبعد انتهاء مراسيم التشييع والصلاة عليه من قبل حجة الاسلام الامام السيد الخوئي قدس سره نقل الى مثواه الأخير حيث ووري الثرى بجوار أخيه الأكبر المرحوم السيد محمد رضا في مقبرته الخاصة في شارع الامام زين العابدين (ع) وبوفاته فقد خسر الشعر علماً من أعلامه والوطنية راية من راياتها الخفاقة في تاريخها النضالي وبفقده افتقاد للنموذج الذي يلتقي في شخصيته عمق التاريخ بمعطيات الحاضر وتأمل الفيلسوف بخيال الشاعر ولصوق المحافظ المتزمت برفض التمرد الثائر انه المثل المعاصر الفريد لأولئك الحكماء والملهمين الكبار الذين قضوا أعمارهم في محاريب الالهام ومعابد الحكمة ونذروا نفوسهم ومواهبهم لخدمة الانسانية دعاة خير ورسل حرية ومحبة ولقد كان رحمه الله دون ريب من كبار نساك الحرية وأنبياء الشعر وفي هذا الصدد يقول حجة الاسلام العلامة المرحوم الشيخ محمد طاهر الشيخ راضي في أبيات أرسلها له وهو على فراش المرض في المستشفى اثر عودته من لبنان يقول فيها:
هو الشعر في أرجاه سادت امارة |
وهز لواها اصيد إثر أصيد |
|
ويعتز بالصافي لواها وإن تكن |
نبوة شعر فهي حق لأحمد |
|
اعرناه لبنانا فلم تحتفظ به |
وكان بها كالجدي للمتعبد |
|
خذوه جواد السبق في كل حلبة |
تقدمهم كاليوم ذاتا على غد |
|
خذوه لجيد العصر عقدا وباهلوا |
به كل عصر فهو علق التفرد |
كما رثاه بقصيدة عامرة يقول فيها:
نعى القمة العليا من الأدب الضافي |
فقلت قد اغتال الردى أحمد الصافي |
|
وما موته بدعا ولكن رزؤنا |
جفاف الخضم الغمر للأدب الضافي |
|
فقدناه لكن ما فقدنا تراثه |
يطوف الجهات الست من غير طواف |
|
فقدناه نظاما معيدا ومبدءا |
عقودا ورصافا لأروع إرصاف |
|
فقدناه لم يخلف ولم يشف فاقد |
يعض على كفيه عن أسف جافي |
|
فقدنا به عهد الرضي محمد |
وتعويض أحقاب لتجديد أحصاف |
|
له رحلة في كل آن إلى العلى |
فدع لقريش رحلتيها لإيلاف |
|
أقول له لو كان يسمع قائلا |
مقالة صدق ولا مقالة ارجاف |
|
فحول من الأسلاف أنت ورثتهم |
وزدت كما ازداد الثري على العافي |
|
أخذت بأعناق المجيدين منهم |
كما أخذ السيد العملس بالقاف |
|
فقلت وقالوا غير أن لا تعادل |
وهل كقويم الخط نبعة صفاف |
|
وأنت امتطيت النجم منتعلا لها |
فلا تستوي قدرا مع الراجل الحافي |
|
وهل يستوي خاوي الوفاض مع الذي |
مضى وهو فعم الجيب بالدرهم الوافي |
|
أخذت بما فيه اقتنعت ولم تحد |
ليمنى ولا يسرى ولا لي مخلاف |
|
وجزت الطريق الوعر لست بعابئ |
بقمة قود أو بلجة رجاف |
|
وعشت معافى لا من السقم والضنى |
بلا من عوار العيب أو نقد صراف |
|
ورحت وما سدت لفقدك ثغرة |
وقد يعجزون الخرق انملة الرافي |
|
تشل ببيت ألف بيت وشاعر |
كقنبلة من ألف سيف وسياف |
|
تزعزع منهم كل أرعن شامخ |
يروح هباء إذ يهد هده السافي |
|
ومنسوب ما قالوا وما قلت واضح |
كضحضاح لا يربو بدأ ماء قذاف |
|
لك المعجزات الباقيات خوالدا |
نفائس ماس أو يتيمات أصداف |
|
وظلت تقول الحق وهو مسيطر |
على دوران القول أو لف حراف |
|
وكنت إمام الشعر منتحيا به |
لبرهان صدق لا مقالة عياف |
|
وفلسفة لا في مديح ولا رثا |
وترميم أجسام هزيلة أجواف |
|
أعدت لنا الخيام قد تم بدره |
بفلسفة وضاءة لا بأخساف |
|
أنرثيك بالعكر الأجاج فهب لنا |
نمير رؤى من عذب منهلك الصافي |
|
وليست مجاري السيل جرافة الربى |
أجدت أخاديدا كترشيح أخلاف |
|
هو الملهم المغبوط إن قال لائمت |
شؤون أعاليه أخامص أطراف |
|
قصائد أمثال النجوم تلألأت |
على ما سواها من ذبالات أسداف |
|
تجلت من الوزن الثقيل سميكة |
هي الذهبة الحمراء لا نسج أفواف | |
وشيدت على الابرام لا نقض شأنها |
فقامت على الاتقان لا ظهر مستاف |
|
تسير كلمع البرق مسترسلا بها |
وليست بأعجاز تنوء وأرداف |
|
تعطر جو الحفل فيها كأنها |
من السامع النقاد مسكة مستاف |
|
وأثوابها من سندس رق نسجها |
وأحكم ما كانت لبابيد أصواف |
|
ويرسلها آيات فن حكيمة |
رصين بها لا المستخف ولا الجافي |
|
بليغات معنى والفصيحات منطقا |
من الطبع لا عن سيبويه وسيراف |
|
فيوجب اما عنده صح موجب |
وينفي اذا كان الصحيح مع النافي |
|
اذا قسته مع غيره كنت خاطئا |
قياسا فنسر لا يقاس بخطاف |
|
وإن شئت فانظر ما يقول وقولهم |
تجده قياس الحي بالميت الطافي |
|
فيا واحد آثاره تملأ الفضا |
متى عد كالبليون آلاف آلاف |
|
مليك ولكن بالقوافي متوج |
شئا تاج كسرى واستطال بإسراف |
|
وساد بدر القول إكليل قيصر |
فقام رفيع الرأس من دون اخناف |
|
وتبع من معناه حيث بقيله |
غطارفة صيد الرؤوس واشراف |
|
وثنى معري الفن لما تشابها |
سوء بأفعال ومثلا بأوصاف | |
عفيف وعنف ما استمالته ثروة |
ولم يصبه من غادة لين أعطاف |
|
وعل المعري لو يرى أحمدا |
لمال ولم يرفع له ذيل اعفاف |
|
أتى الكون أعمى فاستهان مجانبا |
لما لا يراه من نهار وأغداف |
|
يقول المعري ما جنيت كما جنى |
علي أبي والصافي توأمك النافي |
|
تغمدك الرحمن منه برحمة |
تطل على نجوى النفوس فلا خافي |
|
من الساكني دست العلى في حياتهم |
فيا عجبا في الموت سكان أجداف |
|
بل الدست مرتادا لهم حيث يمموا |
كما لرجال الغد مرتاد اعراف |
|
وهذا فمي قد قال قوله صادق |
وهذا ضميري قد تملأ بانصاف | |
كفاك شفيعاً خير جد وجدة |
هما السلم الموصول بالمنتهى الكافي |
|
ولا عمل لي غير أني رقهم |
اذا انتبه المغرور من رقدة الغافي |
|
وساوى الردى ما بين أفراد أهلها |
كما تتساوى الصافنات بأعراف |
|
فصبرا ذويه فالحياة تماثلت |
مع الموت في الدنيا تماثل اكتاف |
|
علي واخوان الصفا خير أخوة |
كفاة لداء النازلات الدوا الشافي | |
هم القوم ما خافوا وباتوا أعزة |
ولكن لدى اللاجي لهم ذل مخواف |
|
لهم أوجه تزداد سرعة فضلها |
إذا كان سير الطالبين بإدلاف |
|
عقول لهم سادت وساد نتاجها |
بأفضل تحريك وأصلح ايقاف |
|
فأوعز لرواد اليمامة ناصحا |
لهم فارجعوا اما رجعتم لعراف |
|
بطاء الى غير المعالي وانهم |
الى هامها خفوا بأسرع إيجاف |
|
اذا سئلوا جادوا وإن كف سائل |
ندى بدءوا والمعروف كفا بايكاف |
|
حماة رعاة حافلون مآزرا |
ملاء لدى الجلى برحمة معطاف |
|
رفاؤ الى الحسنى يفيض وطابهم |
من المثل العليا بأضعاف أضعاف |
|
على الصدق مجبولون من دون حلفة |
بريئون من همز وغمزة حلاف |
|
وليست عصاهم من عصي زعانف |
مشعوذة بل من عصى ذات تلقاف |
|
على مستقيم اوضعوا وتنكبوا |
عن الخطة العوجا وعن زيف زياف |
|
وأكناف مجد وارثين كرامة |
بها ليل سادات وأمجاد أكناف |
|
ذوي النسب الوضاح يضمن نوره |
هدى طالب عن خابط خبط اعساف |
|
بدا واضحا مثل النهار لناظر |
وأغنى كنوز الشمس عن وصف وصاف |
|
اذا ضاق ذرعا طارق الليل أنست |
بشاشتها عودا وبدأ بأرداف |
|
منيرات ما ضاقت طلاقة جودها |
وأزلفت العافين أكرم إزلاف |
|
وبيت قديم المجد عال سنامه |
مع العز مشفوع بعزة آناف |
|
وظل ظليل الفئ أمن لخائف |
وكان لجرح الفقر مسباده الشافي |
|
تقى قصر الليل البهيم عليهموا |
بنائهم سافا يقوم على ساف |
|
لقد شهدت ساحاته الكثر انهم |
هم خير وفاد وهم خير أضياف |
|
خذوها أتت جهد المقل معدة |
رضاكم على اهدائها خير أخلاف |
|
وأنتم بنعمى رضاء مدى المدى |
سرت كبليل الروح من دن اعصاف |
|
وعمرتمو ما عمر الرمل والحصى |
وما عاقب الليل النهار بأرداف |
وبمناسبة مرور سنة على وفاته أقامت وزارة الاعلام العراقية حفلاً لتأبينه في بغداد والنجف استمر مدة يومين وفي بغداد بدأ الاحتفال التأبيني بقاعة ابن النديم يوم الأحد 12 شباط 1978 وقد تضمن منهاج الاحتفال المواد التالية:
1- تلاوة آي من الذكر الحكيم.
2- كلمة وزير الثقافة الأستاذ كريم شنتاف.
3- كلمة اتحاد الأدباء في العراق ألقاها رئيس الاتحاد الأستاذ الشاعر شفيق الكمالي.
4- كلمة جمعية الرابطة الأدبية في النجف ألقاها الشيخ محمد الخاقاني.
5- قصيدة الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد.
6- كلمة الوفود العربية.
7- كلمة الدكتور عبد الرزاق محي الدين وزير الوحدة السابق.
8- كلمة قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة بغداد.
9- قصيدة الشاعر السيد مصطفى جمال الدين.
10- كلمة عائلة الفقيد ألقاها الدكتور علي الصافي.
وفي اليوم الثاني الاثنين 13 شباط عقد الحفل بمحافظة النجف في قاعة الإدارة المحلية وقد شارك فيه عدد كبير من الكتاب والشعراء منهم:
1- دراسة للدكتور حسين علي محفوظ الاستاذ في جامعة بغداد.
2- قصيدة الدكتور الشيخ أحمد الوائلي.
3- قصيدة الشاعر الشيخ حسين الصغير.
4- قصيدة الشاعر اللبناني السيد علي بدر الدين.
5- كلمة الدكتور جلال خياط.
6- قصيدة الشاعر ضياء الدين الخاقاني.
7- قصيدة الشاعر السيد مسلم الجابري.
8- قصيدة الشاعر السيد جواد شبر.
ومما جاء في رثائه في قصيدة الشاعر السيد جواد شبر قوله:
ما جئت أرثيك أو أذري الدموع أسى |
إن الرثاء لشخص مات واندرسا |
|
قالوا لقد مات قلت اليوم مولده |
ونجمه قد تجلى يطرد الغلسا |
|
واليوم يبدأ تاريخ له عبق |
وطيب تاريخه قد أنعش الجلسا |
|
ما الحي مقياسه مر السنين ولو |
طال البقاء ولا ترداده النفسا |
|
ان الحياة بأفكار يخلدها |
عبر العصور وغرسا صالحا غرسا |
|
وأخذا بيد العافي ومنقذه |
سواء أحسن هذا أم اليه أسا | |
ما كان أحمد في عصر يعيش به |
إلا كشعلة نور تحمل القبسا |
|
يعيش في الناس لكن روحه انفردت |
عنهم كمن عاش بين الناس محتسبا |
|
سما إلى عالم أسمى لفكرته |
لذاك مهما خلا في نفسه أنسا |
|
فلا ترى معه في بيت عزلته |
إلا اليراعة – أم الشعر – والطرسا |
|
إيه أبا الخالدات النيرات السنا |
والسائرات أقام الدهر أو جلسا |
|
هذي روائعك الغرا يرددها |
فم الزمان ومن أنوارها اقتبسا |
|
أمواجها اندفعت تتلو أشعتها |
تجلي العقول ومنها تغمر اليبسا |
|
وذي الهواجس ما أحلى هواجسها |
تداعب الروح إن دقت لها جرسا |
|
رفت تناغيك همسا في تدللها |
والحب يعذب إن ناغى وإن همسا |
|
أشعة في معانيها ملونة |
إشعاعها مشرق عن روحك انعكسا |
|
إن كنت حلقت أو أبدعت لا عجب |
قرآن أحمد قدما حير القسسا |
|
وأذعنت لغة الفصحى لروعته |
وعاد منطيقها مستسلما خرسا |
|
الناظم الدر نظما لا نظير له |
بالشعر ينبوعه الصافي قد انبجسا |
|
والمرسل الشعر سهلاً غير ممتنع |
سلساله العذب يجري سائغاً سلسا |
|
زهدت في هذه الدنيا وزخرفها |
إذ أنت أرفع من أن يرتضي الدنسا |
|
وكنت تهزأ ممن راح يعشقها |
وما بأوطارها قد ظل منغمسا |
|
نفس ترى فوق هام النجم رفعتها |
وبزة – إذ تراها – بزة البؤسا |
|
تريهم أن دنياكم وبهرجها |
كشملتي هذه من سامها بخسا |
|
لاويت دهرك حتى رضت جامحة |
كمن يروض من فرسانها فرسا |
|
بعزمة شهد التاريخ واقعها |
ما كانت هيابة يوما ولا نكسا |
|
عرفت دنياك مذ وازنت قيمتها |
وإنها عرفتك النيقد المرسا |
|
وكم دعتك لوصل وهي ضاحكة |
لكن رأتك على ما تبتغي عبسا |
|
رحمك ليست نفوس الناس واحدة |
إن خف ذاك فهذا في الوجود رسا |
|
هذي الحياة وكم غذيتها حكما |
غرا وأرسيت من أركانها أسسا |
|
فكنت تشبعها بحثاً وتجربة |
وكنت تنشرها درسا لمن درسا |
|
وتوضح القول مجلوا ومزدهرا |
فلم يعد بعد فيها الأمر ملتبسا |
|
دم للخلود فذي الأيام طوعك |
والدهر استلان وان قدما عليك قسا |
ومما جاء في كلمة وزير الثقافة والاعلام والفنون في تأبينه قوله كان الصافي ابنا باراً من أبناء العروبة أخلص لها وغنى أمجادها وكان ابنا بارا من أبناء الثورة العريقة. ساهم في ثورة العشرين بكل ما يملك وضحى من أجل أهدافها بكل غال ورخيص فتشرد في الآفاق وعرف مرارة الغربة والمنفى وضنك العيش وكان الصافي وجها من وجوه العبقرية العربية في الشعر والفلسفة والحكمة والترجمة ونحن في هذه المناسبة لا نبكيه لأن الموت أضعف من أن يصل الى عبقرية العبقري ولأن موته كان شهادة أكثر منه انطفاء شعلة وسيظل حيا في نفوسنا وعقولنا ومشاعرنا يطالعنا في كل مكتبة وكل صحيفة وما هذا الحفل إلا مناسبة لتكريم شخصه وتدارس شعره والتعلم من تجاربه وكفاحه والتزود من هذا وذاك بما يغني حياتنا وينميها.
ومما جاء في كلمة رئيس اتحاد الأدباء الأستاذ شفيق الكمالي قوله:
لقد هجر الصافي وطنه عندما رأى الفتى العربي فيه غريب الوجه واليد واللسان ولا سيما بعد أن أمعنت قوى الاحتلال الانكليزي في النجف الأشرف فسادا وتخريباً فأزهقت النفوس واستبيحت حرمات البيوت التي رضعت الشمم والشموخ جيلا بعد جيل وكابراً عن كابر ونفت الكثير من رجالاته تشريداً في الأرض والاغلال في أعناقهم وأحاطت مدينة العلم المقدس بالرهبة والجبروت. لقد آثر الصافي أن يغني لأمته بعيدا عن هذا الجو الخانق الذي يأخذ بالحناجر والألباب وأن يحدو لقافلتها وفق اللون الذي تيسر له والحقيقة ان السيد أحمد يعد واحدا من شعراء العرب الكبار الذين أنبتهم العراق نبتاً حسنا والعراق تربة الشعر الأصيل وبيئته الطبيعية فهو يمتاز بما امتاز به أولئك الشعراء من جزالة اللفظ ووضوح المعنى وبساطة البناء فشعره بدوي بداءة عباءته وعقال بسيط بساطة عيشه واسع الموارد اتساع حياته التي آثر لها الحرية وقد احتفظ شعره بجذوره العربية الراسخة أسلوباً ومعنى وقيماً ومفاهيم وكان لابد للفارس أن يترجل وأن يحتضن التراب الطاهر الجدث الذي نبت فيه ونأى عنه فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا وسلام على أحمد في الخالدين.
ومما جاء في كلمة الدكتور عبد الرزاق محي الدين قوله:
حينما نحتفي بذكرى الشاعر السيد أحمد الصافي فإنما نحتفي بالعربية أمة محررة شاعرة وحين ننسبه للنجف ننسبه للنجف مدينة مقدسة طاهرة وحين نصله بالشعراء من معاصريه نصله بالنخبة العزيزة النادرة انه شاعر والشعراء المجيدون في العربية كثيرون ولكن قوميته قومية معدن لا يحتاج لأن يكونها الى تصيير وتعدين ولا في أن نبنيها الى اشهاد وتوثيق بدايتها خلقه واستمرارها استمرار وجوده والحديث عما قيل عنه وما يمكن أن يقال أمر يطول ولا يتسع حفل تأبين لعرضه واستعراضه ومما يميزه عن شعراء العصر خلوصه من المناسبات اذ ان شعره يكاد يخلص من الاستجابة للمناسبات الحادثة حدثا فرديا واتسامه بجدة المعاني وابتداع الأخيلة بحيث لا تستطيع أن تزعم بلا كبير حرج انه لا تخلو مقطوعة أو قصيدة من معنى لم يسبق له أو معنى اهتدى اليه بتوليد لم يسبق اليه مثل هذا الزعم ومن ميزات شعره ان معناه يكاد يستقل عن عبارته بحيث لا تشهد ذلك الالتحام البنيوي بين معناه وعبارته وتلك اللزومية التي لا تتعرض بها لفظة عن لفظة وتركيب عن تركيب فالشعر عادة والعربي منه بخاصة تقوم الفنية فيه ويقع موطن العجب منه في التلاحم والتكافل بين الألفاظ والمعاني بحيث لو فككت أجزاءه غابت الفنية وتلاشى موطن العجب وليس الأمر كذلك في شعر أحمد الصافي ومما يحمد لشاعرنا وهو من دعاة التجديد انه وقف في وجه أي تجديد يؤدي الى الانحراف بالشعر العربي عن أصالته وعموديته أضف الى ذلك انه كان ديانا بالله وبرسله وكتبه وباليوم الآخر عربياً لم تتغوله هجنة قوميا لم تساوره رده عراقياً لم ينسه العراق طويل الهجرة ومديد فرقه غنيا عن الناس كريما عليهم عاش الوحدة في قبيل من عزته وكبريائه والعزلة في مجتمع أنيس من رفاق تأملاته والعزوبة في زيجة لا (بينونة معها) بالمعاني الحسان من مثانيه ومقطعاته ومات موفور العرض حميد الذكر من أبناء أمته معزز الجانب مكرمة من قيادة شعبه وسلطات حكمه مؤمنا على بقاء أبدي برصيد عالي من دواوينه الخمسة عشر الخالدات وأبياته السائرات.
وفي دراسة الدكتور حسين علي محفوظ جاء ما نصه:
يعد الصافي شاعر المعاني في هذا العصر ففي كل بيت من شعره معنى وفي كل عنوان من عناوينه فكر وفي كل عبارة من تعابيره مقصود وفي كل جملة من جمله صورة فدواوين الصافي هي مجموعة معاني ومجمع أفكار وخزانة آراء ومضامين الصافي جديدة بكرة ظاهرة واضحة لا يخفيها لفظ غريب ولا تسترها كلمة وعرة ولا يغطيها تعبير غامض ولا يقعدها تركيب صعب كأن شعره كلام مرسل سهل يدخل الفهم بلا تعب وتدرك معانيه بلا تفكير وأكاد أعد الصافي من تلاميذ المعري وأبي نؤاس وابن الرومي وبشار والبستي والصفي وبهاء الدين زهير ثم قرأ الرباعيات من بعد فتتلمذ على الخيام والظن أن شعر أولئك وأفكارهم هي مصادر أفكاره وآراءه ثم ان أفكاره هي وليدة محنة ومولود تجاربه وما مر به في حياته من تعب ونصب ومر فشعره تعبير عن حياته ووصف دقيق لأيامه وصورة صادقة لآلامه واذا كان شعر الصافي تعبيرا عن حياته ومحيطه وأفكاره وآراءه واذا كان الشعراء يقولون ما لا يفعلون فان شعر الصافي يكاد يميل الى الحقيقة بما عبر وصور وحقيقة تلتمس في شعره وصورته تقتبس من ألفاظه وواقعة يؤخذ من بيانه وهي خاصة تميز شخصية الصافي شاعرا وتميز شعر الصافي أديبا ومن أجل ذلك كان شعر الصافي وثيقة للصافي وللعصر وللإنسان وللحوادث والوقائع في ايامه وقد ترك الصافي بضعة عشر ديوانا يصور كل ديوان منها الفترة التي نظم أشعاره فيها ويرسم مدارج حياته وحياة العصر فهي (أمواج) حينا و(أنغام مشوشة) زمانا و (أشعة ملونة) تارة و (أغوار) ردحا و (تيار) برهة و (ألحان اللهيب) طورا و (هواجس) فترة و (حصاد السجن) آنا و (شرر) مرة و (ومضات) مليا و (لفحات) عصرا و (شلال) موهنا و (ايمان) في الأخير يقذف في قلبه ويلبسه الطمأنينة حتى ترجع نفسه راضية مرضية. كثرة دواوين الصافي وعناوين أشعاره المزدحمة فيها من مفردات ومثاني ومثالث ورباعيات ومقطوعات وقصائد هي نفسها أدب خاص فان كل نفثة من شعره عنوان وهذا شيء لا يشاركه فيه شاعر وهي من خصائص شعره التي لا يشبهه فيها شاعر وأنا أسمي هذا أدب العناوين ولقد نظم أوزانه في مختلف أبحر الشعر ففي شعره الكامل ومجزوء الرمل ومخلع البسيط والخفيف والطويل والمجتث والبسيط والسريع والرجز والرمل والوافر والمنسرح ومجزوء الرجز والمتقارب ومجزوء الكامل فقد قرض الشعر أحد عشر وزنا عدا المجزوء والمخلع وجمع في شعره بين الضدين فقد جمع بين الماء والنار اذا اشتق أسماء خمسة من دواوينه من النار وهي أشعة ملونة, ألحان اللهيب, اللفحات, شرر, ومضات, واشتق أسماء أربعة من دواوينه من الماء وهي الأمواج, الأغوار, التيار, الشلال, وكان رحمه الله جسماً ناحلاً وبدناً ضعيفا عفته الغربة وأضنته القناعة ومزقته الشيخوخة ولكنه كان مثالاً من نكتة وخفة ودعابة وظرف ولو مر بأحد ما مر به من نكبة وحزن وألم وتعب وحسرة لصاغ منه أدق نصب للمحنة ورسم منه أوضح صورة لليأس ولكن قلبه الفتي وروحه الشاعرة ونفسه الحية صبغت ذلك الجسم المتهدم بالصبا وتلك الروح المعذبة بالشباب.
[1])) الكرح: بيت النصارى. وكانت بيوتهم بظهر النجف جنب أديرتهم.
[2]))الشعانين: عيد للمسيحية.
[3])) الثرواني: هو محمد بن عبد الرحمن الشاعر الكوفي أو أبو نؤاس الكوفة. وبالبيت إشارة لمقطوعته التي يقول فيها:
على الريحان والراح وايام الأكيراح | وابريق كطير الماء في لجة ضحضاح | |
سلام يسكر الصاحي وما ثم فتى صاح | إذا عز بنا الماء مزجنا الراح بالراح |
المؤلف مع عمه شاعر العرب
المرحوم أحمد الصافي النجفي